مقالات | عزيز العظمة: العلمانية واقع تاريخي بقلم محمد بوشيخي.


عزيز العظمة

بقلم:محمد بوشيخي
 
عزيز العظمة مفكر سوري كبير من مواليد دمشق سنة 1947، درس بجامعة أكسفورد بإنجلترا وتوبنغن بألمانيا، كما شغل منصب أستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت فضلا عن جامعات عربية عديدة، انتشرت أفكاره خارج حدود العالم العربي، بعد أن ترجمت مؤلفاته إلى عدد من اللغات الغربية والشرقية، وهو مؤلف لعدد من الكتب حول شخصيات دينية وازنة في التاريخ الإسلامي، مثل ابن تيمية والماوردي وابن خلدون وأبي بكر الرازي ومحمد بن عبد الوهاب؛ غير أن الخيط الناظم لمختلف كتاباته كانت هي الدفاع عن الطرح العلماني الذي خصص له كتبا مهمة منها "العلمانية في الفكر العربي الحديث" و"العلمانية من منظور مختلف: الدين والدنيا في منظار التاريخ".

ويعتبر هذا الكتاب الأخير بحسب المفكر التونسي الدكتور الطاهر لبيب، نصا مؤسسا، وعلى الرغم من أن هذا الحكم يعبر عن "موقف العلمانيين منه"، فإن الطاهر لبيب اعتبر أن "أول المحتاجين إلى قراءته مرارا هم، تحديداً، من سكنهم عداء العلمانية"؛ لأنهم بحسب رأيه "محتاجون إليه، على الأقل، لتحويل العداء الجاهل إلى عداء عارف"؛ لأن العلمانية، كما دافع عنها العظمة، لا تختزل في التعريف الساذج الذي يجعل منها فصلا للدين عن الدنيا، بل هي "واقع تاريخي، في تاريخ فعلي"، لذلك "ربطها بتحولات مركبة، وعدد وجوهها المعرفية والمؤسسية والسياسية والأخلاقية، وبالتالي جعل فهمها أكثر تعقيداً مما يظن المتساهلون في الحديث عنها".

العلمانية حركة تاريخية

يستند عزيز العظمة في دعوته إلى العلمانية في العالم العربي، أو بالأحرى في الثقافة الإسلامية، على قراءة تاريخها في العالم الغربي، وكيف انتهت إلى عزل المسيحية عن الهيمنة على شؤون الأفراد والمجتمع والدولة، بدءا من انهيار الفهم الكنسي لنظرية "الحق الطبيعي" أو بالأحرى إرجاع مفهومها، كما حصل مع المفكر الهولندي "هوغو غروشيوس Hugo Grotuis" (1583-1645) "إلى المضامين التي كانت له في القانون الروماني، والتي اعتبرت كل الحقوق حقوقا مدنية، قائمة على الطبيعة البشرية". ثم استتباع ذلك بانبثاق "حرية المجتمع المدني واستقلاله في علاقاته الداخلية عن الدولة وعن كل المؤسسات الأخرى"، حيث انتهى الأمر في آخر المطاف بانبعاث الفكر من خارج حدود السلطة الدينية، كالفلسفة الهيغلية والماركسية وخصوصا أعمال ديكارت الذي "كان مشروعه الفلسفي أساس بداية النظر النقدي في الكتاب المقدس".

وسيتعزز هذا المسار، خلال القرن التاسع عشر، ب"نشوء الروح التاريخية"، مما أدى إلى تحرير العقل وتمكينه "من النظر في أسس الكتاب المقدس". ولعل المؤشر الكبير –بحسب العظمة- على انهيار الفهم التقليدي للدين "هو أن البحث في شؤون النصوص الدينية جاء من داخل المؤسسة الدينية نفسها، وخصوصا مع بداية البحث التاريخي في حياة المسيح عند القس البروتستانتي "ديفيد فريدريش شتراوس D.F.Straus"، ومع التجاوز الفلسفي للمسيحية وللديانة عموما، عند "فيورباخ Feuerbach" ذي التربية والتنشئة الدينيتين وبأثر من التاريخية الهيغلية"، كما استمر النقد التاريخي للنصوص خلال القرن العشرين مع "بونهوفر Diettrich Bonhoeffer" عبر توظيف الأسطورة في قراءة النص، وبالتالي اعتبار مضامين الكتاب المقدس "مضامين أخلاقية إيمانية لا صلة لها بوقائع التاريخ"؛ أي أنها "مضامين فاعلة على مستوى الرمز، دون الدلالة على الواقع أو اللاواقع والخيال الأسطوري لعصرها".

فالقرن التاسع عشر كان، بحسب العظمة، "القرن الذي خضع فيه الفكر الديني نفسه، إلى حد كبير، لمنطق مستقى من خارج الدين، منطق إنساني أخضع النص لطبائع التاريخ والمجتمع". وهذا واقع ينطبق بحسب رأيه على جميع الأديان، لذلك نجده يصرح في كتابه "التراث بين السلطان والتاريخ" بالقول إن الدين في أساسه "فصل بين المقدس والمدنس"، إذ لا يوجد "دين يخرج في أساسه عن هذا الفصل المطلق"، بل إن هذا الفصل هو أصل لكل دين وعنصر "يدخل في كل أحواله وأدواره".

العلمانية في الإسلام

وعلى الرغم من ارتكازه على التجرية الغربية وسياقها التاريخي في طرح تعريفاته للعلمانية، فإن عزيز العظمة يعتبرها قدر العالم الإسلامي من خلال تأكيده على أن "ما يصدق من المبادئ العامة على التواريخ الموسومة بالمسيحية التي تناولناها في الفقرات السابقة يصدق على تواريخ الإسلام"؛ فالواقع المتطور المتغير هو الذي "يفرض المعاني على النصوص، بتفسيره وتأويله إياها على نحو يوهم بالإذعان لها، في حين أن النص هو المذعن للتاريخ في واقع الأمر".

فتعريف العلمانية ليس سوى قراءة في تاريخها، وهو ما عبر عنه بالقول إنها "جملة من التحولات التاريخية السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأيديولوجية"؛ أي أنها "تندرج في أطر أوسع من تضاد الدين والدنيا، بل إنها تابعة لتحولات سابقة عليها في مجالات الحياة المختلفة"، كما أنها "ليست بالشأن التام التحقق، بل إنها أشكال ومسارات تعتمد على الظروف التي نشأت عنها؛ أي أن لها تواريخ حقيقية وليس فقط تواريخ أيديولوجية تبدو فيها كأنها مبارزة بين فرسان الخير وفرسان الشر".

فالعلمانية منتوج تاريخي لا يتعلق بثقافة دون أخرى أودين دون آخر، إذ يجب النظر إليها بمنظار العلم وبواسطة منطقه، فعزيز العظمة يستحضر أهمية العلم في الدعوة إلى العلمانية، ويدعو إلى تفادي "انتظار مبارزة درامية بين العلم والدين"، لأن العلم هو "جملة معارف مضبوطة". أما الدين، فهو "جملة تصورات قيمية لا تخضع للعقل"، وبالتالي "لا يمكن إيجاد وضع من التناقض بينهما".

لذلك، نجده يسم الأدبيات الديمقراطية العربية، في كتابه "العلمانية من منظور مختلف"، بنوع "من السكوت المضروب" على العلمنة والعلمانية، على الرغم من أن مجتمعاتنا، كما يقول، "مجتمعات علمانية، ودولنا دول علمانية، وفكرنا السائد فكر علماني"، لأن العلمانية كما صاغها في فكره ليست "شعارا بل هي اتجاه تاريخي وجملة مواقف وقوى اجتماعية وأيديولوجية، ونظرية تلم بالتاريخ وتتوافق مع الترقي ومع التحولات الاجتماعية على الصعيد العالمي"، بل إنه كشف على أن كلامه عن العلمانية في هذا الكتاب يتوخى أساساً "الاستجابة لفرصة تقديم قراءة علمانية لتاريخنا وواقعنا".

كما رفض، في كتابه المشترك مع الدكتور عبد الوهاب المسيري المعنون بـ"العلمانية تحت المجهر"، الدعاوي المناوئة للعلمانية في البلاد الإسلامية بحجة غياب "الكنيسة"، إذ أن هذا بحسبه لا ينهض شرطا لغياب طبقة تدعي الوساطة بين الخالق والمخلوق؛ أي طبقة علماء الشريعة، أو ما سماهم بـ"سلك كهنوتي في الإسلام بالمعنى السوسيولوجي للعبارة"؛ لأن علماء الإسلام، يحدد العظمة، "خصوصا منذ العهدين السلجوقي ثم الأيوبي وتاليا المملوكي، كونوا مؤسسة سوسيولوجية وعلمية وعبادية سيطرت على مجال التشريع والقضاء ومجال العبادة ومجال التربية، وتميز أعضاؤها عن غيرهم من الناس بزي خاص وبامتيازات خاصة، وسيطروا على إدارة الأوقاف وأموالها".

وهو في دعوته هذه يحاول بعث الطمأنينة على بقاء واستمرارية الإيمان في ظل الأنظمة العلمانية، لأن ثقافة العلمانية لم تكن أبدا "محاربة للدين ومؤسساته إلا في فرنسا والمكسيك وفي الدول الشيوعية سابقا"، كما أنها لم تكن "شعارا سياسيا إلا في ما ندر، وهي في الواقع الغالب مساوقة ضمنية لحركة المجتمع والفكر في عصر الحداثة"؛ أي تلك الحركة التاريخية التي حرمت أرباب الوظائف الدينية، وبالتالي المرجعية الدينية، من ممارسة عدة وظائف تنتمي لقطاعات "التشريع والتعليم والقضاء والثقافة، وآلت بهم إلى مواقع عبادية في المصاف الأول".


وعلى الرغم من شهرة أفكار العظمة وذيوعها في الأوساط المتحمسة للعلمنة، فإنها خلفت قدراً من الانتقادات أيضاً، بقدر ما خلفت من الإعجاب، وقد عبر عبد الوهاب المسيري عن جزء من تلك الانتقادات، عن طريق رفضه للمنطلقات الفكرية عند العظمة بل "بتبخيس" مشروعه، بقوله عنه إنه حاول "اختزال كل ما لا يروق له إلى صورة كاريكاتورية، الأمر الذي ييسر عليه إصدار الأحكام وأخذ موقف منتصر متعال".
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق